ترامب والناتو- المال مقابل الحماية.. مستقبل التحالفات الأمنية؟

المؤلف: محمود سلطان10.22.2025
ترامب والناتو- المال مقابل الحماية.. مستقبل التحالفات الأمنية؟

دونالد ترامب، الذي نشأ في عالم الأعمال، يولي اهتمامًا بالغًا للمال، حيث يعتبره حجر الزاوية في تقييم العلاقات المختلفة، سواء كانت إنسانية أو سياسية. ففي نظرته، يُختزل كل شيء إلى قيمته المالية والاقتصادية.

يتبنى ترامب، كرجل أعمال وسياسي، ما يُعرف بـ "التشيُّؤ" كما وصفها لوكاتش، وهي النظرية التي تختزل قيمة العالم في السلع المنتجة والأموال المتراكمة، وتعتبر البشر مجرد سلع أو بضائع قابلة للتقييم المالي.

خلال فترة رئاسته، لم يتوانَ ترامب عن التشكيك في جدوى "التحالفات الأميركية" التقليدية، معتمدًا على منطق مالي بحت: ما هو حجم الأوراق النقدية التي يمتلكها الحلفاء في خزائنهم؟!

الدفع مقابل الحماية

لطالما انتقد ترامب حلف شمال الأطلسي (الناتو)، متهمًا الدول الأوروبية الأعضاء البالغ عددها 28 بالتقاعس عن زيادة الإنفاق العسكري، اعتمادًا على الولايات المتحدة كدرع واقٍ. ومع ذلك، لم يظهر ترامب فهمًا حقيقيًا لآلية تمويل الناتو، بل وصفه بشكل مغلوط بأنه "نادٍ يعتمد على رسوم العضوية".

وفي مقابلة مع شبكة "جي بي نيوز" البريطانية، تساءل ترامب: "لماذا يجب علينا حماية دول لديها ثروات طائلة، في حين أن الولايات المتحدة تتحمل الجزء الأكبر من تكاليف حلف شمال الأطلسي؟".

ازدراءً بالحلفاء الأوروبيين، كتب ترامب ذات مرة: "إن الانسحاب من أوروبا سيوفر على بلادنا مليارات الدولارات سنويًا". وهدد مرارًا وتكرارًا بالانسحاب من الناتو، الذي تأسس قبل سبعة عقود وظل محور اهتمام السياسة الأميركية، بغض النظر عن الحزب الحاكم، سواء كان ديمقراطيًا أو جمهوريًا.

وفي تجمع انتخابي في "ساوث كارولينا"، حذر ترامب من أن بعض حلفاء الولايات المتحدة لا يوفون بالتزاماتهم الدفاعية. وروى كيف خاطب رئيس دولة حليفة لم يذكر اسمها قائلًا: "أنت لم تدفع؟ أنت متخلف عن السداد؟ إذًا لن أحميك.. عليك أن تدفع. عليك أن تسدد فواتيرك". ولاقى هذا التصريح ترحيبًا حافلًا من الحاضرين.

في حين اعتاد المراقبون على انتقادات ترامب المتكررة للناتو، إلا أنه شن هجومًا لاذعًا في فبراير/شباط الماضي، مصرحًا بأنه "سيشجع روسيا على مهاجمة الدول الأعضاء التي لا تفي بالتزاماتها المالية". وقد دفعت هذه التصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "ينس ستولتنبرغ" إلى دعوة ترامب لعدم تقويض الأمن الجماعي للحلف.

موقف متشدّد

في إطار سياسة "أميركا أولًا"، أعادت إدارة ترامب تقييم العديد من التزامات الولايات المتحدة السابقة متعددة الأطراف، بما في ذلك الانسحاب من الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومعاهدة القوى النووية متوسطة المدى، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، واليونسكو، واتفاق باريس للمناخ. كما حث حلفاء الناتو على زيادة تقاسم الأعباء المالية.

في محاولة لتلطيف موقفه المتصلب تجاه الناتو، صرح ترامب في 19 مارس/آذار الماضي بأن تصريحاته التي قللت من أهمية التزامه تجاه الحلف كانت مجرد تكتيك تفاوضي لحث الدول الأعضاء على زيادة مساهماتهم في الدفاع الجماعي.

لكن فكرة انسحاب واشنطن من الناتو ظلت تراود ترامب، سواء خلال فترة رئاسته أو من خلال التصريحات العفوية التي أدلى بها خلال حملته الانتخابية لعام 2024.

يعزو محللون أميركيون عدم تنفيذ ترامب لتهديده بالانسحاب من الناتو خلال فترة رئاسته إلى تأثير مساعديه، الذين لعبوا دورًا في ردعه عن هذه الخطوة "المجنونة"، مثل بولتون وجيمس ماتيس وجون كيلي وريكس تيلرسون ومايك بومبيو وحتى مايك بنس. ومع ذلك، هناك مخاوف من أن الفريق الاستشاري الذي سيحيط به في حال فوزه بولاية ثانية قد لا يمتلك الوعي الكافي بأهمية التحالفات الأمنية الأميركية في ظل بيئة عالمية مضطربة تهدد مصالح واشنطن.

ترى الصحفية والمؤرخة الأميركية "آن أبلباوم" أنه لا يوجد فريق آخر من المحللين الجمهوريين الذين يمتلكون فهمًا عميقًا لروسيا وأوروبا، لأن معظمهم إما عارضوا ترامب علنًا في عام 2016 أو انتقدوه بعد عام 2020. وتضيف أنه في حال فوزه بولاية ثانية، سيحيط ترامب نفسه بأشخاص يشاركونه كراهيته للتحالفات الأمنية الأميركية أو لا يمتلكون معلومات كافية عنها أو لا يهتمون بها. بل كشفت أن بولتون نفسه أسرّ لها بأن "الضرر الذي أحدثه ترامب خلال فترة ولايته الأولى كان قابلًا للإصلاح"، لكن "الضرر في الولاية الثانية سيكون غير قابل للإصلاح".

على عكس ما حدث في ولايته الأولى، حيث أظهر بعض الاحترام للمؤسسات السياسية، فإن ترامب "غير المقيد" في ولاية ثانية سيدفع الدول الأوروبية بقوة إلى تخصيص المزيد من الموارد لحلف شمال الأطلسي.

تعهد ترامب بأنه إذا عاد إلى السلطة، فسوف يسعى إلى تسوية الحرب الأوكرانية "خلال 24 ساعة"، في إشارة إلى أن أوروبا سيتعين عليها إيجاد طريقة للتصالح مع موسكو.

ويبدو أن هذه رسالة مبطنة إلى كييف لإعادة تقييم خياراتها في مواجهة روسيا، نظرًا لاحتمال أن يرفض ترامب تقديم أي دعم مالي لأوكرانيا في حربها ضد روسيا.

إنشاء جيش أوروبي

صرح الكولونيل ألكسندر فيندمان لديفيد روثكوبف، الكاتب في مجلة "نيو ريبابليك"، بأن "فوز ترامب في عام 2024 سيؤدي بلا شك إلى إنهاء الدعم الأميركي لأوكرانيا". وأضاف أنه بدون الدعم الأميركي، من المرجح أن تضطر أوكرانيا إلى التفاوض على التنازل عن أراضيها، مما يمنح بوتين نصرًا كبيرًا.

يُزعم أن ترامب قال لرئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين" في عام 2020، وفقًا لتيري بريتون، رئيس السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي: "إذا تعرضت أوروبا لهجوم، فلن نأتي أبدًا لمساعدتكم ودعمكم".

يتهم ترامب الأوروبيين بالاعتماد على الجيش الأميركي لحمايتهم. وإذا أصر على تهديده بإنهاء الغطاء الأمني الأميركي، فإن الكتلة المكونة من 27 دولة، والتي تفتقر إلى قوة عسكرية موحدة، قد تجد نفسها بلا دفاع في مواجهة روسيا.

يقول يوشكا فيشر، وزير الخارجية الألماني السابق، الذي قاد حزب الخضر في البلاد لمدة تقارب عقدين من الزمن: "في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، التي أثارت في بعض الأحيان خطر المواجهة النووية، فإن أوروبا بدون القوة العسكرية الأميركية ومظلتها النووية قد تشعر بأنها وحيدة تمامًا في مواجهة التحديات".

يعتقد فيشر أنه في ظل الاحتمال المتزايد لعودة ترامب إلى الرئاسة وتزايد التهديدات الروسية ضد أوروبا الشرقية، فإن الاتحاد الأوروبي "لم يعد أمامه خيار سوى أن يصبح قوة عسكرية وسياسية مستقلة".

لكن اقتراح فيشر ليس جديدًا، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لطالما دعا إلى إنشاء جيش أوروبي موحد يضمن "السيادة العسكرية" و"الاستقلال الإستراتيجي" للقارة.

تساءل ماكرون: "هل ستظل الإدارة الأميركية على حالها دائمًا؟ لا أحد يستطيع الجزم بذلك، ولا يمكننا تفويض أمننا الجماعي واستقرارنا لخيارات الناخبين الأميركيين".

لكن مساعي ماكرون لتشكيل تحالف عسكري أوروبي حصري لا يمكن تجاهلها من قبل نظرائه، وسط مخاوف متزايدة من أن الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب لن تقدم الدعم العسكري والمالي اللازم لحلف شمال الأطلسي.

بينما يواصل ماكرون وغيره الحديث عن تدابير الأمن الجماعي، سيكون من الصعب على أوروبا سد الثغرات في غياب القوة العسكرية الأميركية.

لتجنب هذا السيناريو، قدم السيناتور الديمقراطي تيم كين والسيناتور الجمهوري ماركو روبيو تشريعًا حظي بموافقة مجلس الشيوخ، يهدف إلى منع أي رئيس أميركي من الانسحاب من حلف شمال الأطلسي. يتضمن القانون، الذي أطلق عليه "قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2024"، بندًا يشترط الحصول على موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ لاتخاذ قرار بالانسحاب من الناتو. ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحًا حول ما إذا كان هذا القانون سيصمد أمام تحدٍ قانوني آخر في حال إعادة انتخاب ترامب.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة